الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والافتراء: الاختلاق وإيجاد خبر لا مخبر له.وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على اللَّه الكذب} في سورة العقود (103).وقد ردّ الله عليهم استدلالهم بما أشار إلى أنهم ضالّون أو مُضِلُّون، وواهِمون أو مُوهِمون فأبطل قولهم بحذافره بحرف الإِضراب، ثم بجملة {الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}.فقابل ما وصَفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفين: أَنهم في العذاب وذلك مقابل قولهم: {أفترى على الله كذبًا} لأن الذي يكذب على الله يسلِط الله عليه عذابه، وأنهم في {الضلال البعيد} وذلك مقابل قولهم: {به جنة}.وعدل عن أن يقال: بل أنتم في العذاب والضلال إلى {الذين لا يؤمنون بالآخرة} إدماجًا لتهديدهم.و {الضلال} خطأ الطريق الموصّل إلى المقصود.و {البعيد} وصف به الضلال باعتبار كونه وصفًا لطريق الضالّ، فإسناد وصفه إلى الضلال مجازي لأنه صفة مكان الضلال وهو الطريق الذي حاد عن المكان المقصود، لأن الضالّ كلما توغّل مسافة في الطريق المضلول فيه ازداد بُعدًا عن المقصود فاشتد ضلاله، وعسر خلاصه، وهو مع ذلك ترشيح للإِسناد المجازي.وقوله: {في العذاب} إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا.والظرفية بمعنى الإِعداد لهم فحصل في حرف الظرفية مجازان إذا جُعِل العذاب والضلال لتلازمهما كأنهما حاصلان معًا، فهذا من استعمال الموضوع للواقع فيما ليس بواقع تنبيهًا على تحقيق وقوعه. {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ}.الفاء لتفريع ما بعدها على قوله: {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب} [سبأ: 8] الخ، لأن رؤية مخلوقات الله في السماء والأرض من شأنها أن تهديهم لو تأملوا حق التأمل.والاستفهام للتعجيب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدَر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإِنسان بعد العدم.والرؤية بصرية بقرينة تعليق {إلى}.فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث، فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي.والمقصود: حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه.وهذا كقوله: {أفلم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} [الروم: 8].والمراد ب {ما بين أيديهم} ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية، وب {ما خلفهم} ما هو وراء كل أحد منهم، فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها هاو إلى مغربه وقمرًا مختلف الأشكال باختلاف الأيام، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة، وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق.وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه.و {من} في قوله: {من السماء والأرض} تبعيضية.والسماء والأرض أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82].وجملة {إن نشأ نخسف بهم الأرض} اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإِنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيْكة من سقوط الكسف.وقرأ الكسائي وحده {نخسبّهم} بإدغام الفاء في الباء، قال أبو علي: وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك: اضرب فلانًا، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك: اضرب مالكًا، ولا تدغم الميم في الباء كقولك: اضمم بكرًا، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغثة التي في الميم، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصْب.والكِسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور، وهو القطعة من الشيء.وقد تقدم في قوله تعالى: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا} في سورة الإِسراء (92).وقرأ الجمهور {نخسف} و {نسقط} بنون العظمة.وقرأها حمزة والكسائي وخلف بياء الغائب على الالتفات من مقام التكلم إلى مقام الغيبة، ومعاد الضميرين معروف من سياق الكلام.وجملة {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} تعليل للتعجيب الإِنكاري باعتبار ما يتضمنه من الحث على التأمل والتدبر كما تقدم آنفًا، فموقع حرف التوكيد هنا لمجرد التعليل، كقول بشار:
ولك أن تجعل تذييلًا.والمشار إليه هو ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من الكائنات فيهما.والآية: الدليل والتعريف للجنس، فالمفرد المعرّف مساو للجمع، أي لآيات كثيرة.والمنيب: الراجع بفكره إلى البحث عما فيه كماله النفساني وحسن مصيره في الآخرة فهو يقدّر المواعظ حقّ قدرها ويتلقّاها بالشك في الحالة التي وعظ من أجلها فيعاود النظر حتى يهتدي ولا يرفض نصح الناصحين وإرشاد المرشدين مرتديًا برداء المتكبرين فهو لا يخلو من النظر في دلائل قدرة الله، ومن أكبر المنيبين المؤمنون مع رسولهم. اهـ. .قال أبو حيان في الآيات السابقة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}.هذه السورة، قال في التحرير، مكية بإجماعهم.قال ابن عطية: مكية إلا قوله: {ويرى الذين أوتوا العلم} فقالت فرقة: مدنية فيمن أسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأشباهه. انتهى.وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة، لما سمعوا {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} إن محمدًا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوّفنا بالبعث، واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدًا، ولا نبعث.فقال الله: {قل} يا محمد {بلى وربي لتبعثن} قاله مقاتل؛ وباقي السورة تهديد لهم وتخويف.ومن ذكر هذا السبب، ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها. {الحمد لله} مستغرق لجميع المحامد. {وله الحمد في الآخرة} ظاهره الإستغراق.ولما كانت نعمة الآخرة مخبرًا بها، غير مرئية لنا في الدنيا، ذكرها ليقاس نعمها بنعم الدنيا، قياس الغائب على الشاهد، وإن اختلفا في الفضيلة والديمومة.وقيل: أل للعهد والإشارة إلى قوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله} أو إلى قوله: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده} وقال الزمخشري: الفرق بين الحمدين وجوب الحمد في الدنيا، لأنه على نعمه متفضل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة، وهي الثواب.وحمد الآخرة ليس بواجب، لأنه على نعمة واجبة الاتصال إلى مستحقها، إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم يلتذون به.انتهى، وفيه بعض تلخيص. {يعلم ما يلج في الأرض} من المياه.وقال الكلبي: من الأموات والدفائن. {وما يخرج منها} من النبات.وقال الكلبي: من جواهر المعادن. {وما ينزل من السماء} من المطر والثلج والبرد والصاعقة والرزق والملك. {وما يعرج فيها} من أعمال الخلق.وقال الكلبي: وما ينزل من الملائكة.وقيل: من الأقضية والأحوال والأدعية والأعمال.وقيل: من الأنعام والعطاء.وقرأ عليّ، والسلمي: {وما ينزل } بضم الياء وفتح النون وشد الزاي، أي الله تعالى.وبلى جواب للنفي السابق من قولهم {لا تأتينا الساعة} أي بلى لتأتينكم.وقرأ الجمهور: {لتأتينكم} بتاء التأنيث، أي الساعة التي أنكرتم مجيئها.وقرأ طلق عن أشياخه بياء الغيبة، أي ليأتينكم البعث، لأنه مقصودهم من نفي الساعة أنهم لا يبعثون.وقال الزمخشري: أو على معنى الساعة، أي اليوم، أو على إسناده إلى الله على معنى ليأتينكم أمر عالم الغيب كقوله: {أو يأتي ربك} أي أمره.ويبعد أن يكون ضمير الساعة، لأنه مذهوب به مذهب التذكير، لا يكون إلا في الشعر، نحو قوله:ثم أكد الجواب بالقسم على البعث، واتبع القسم بقوله: {عالم الغيب} وما بعده، ليعلم أن إنباتها من الغيب الذي تفرد به تعالى.وجاء القسم بقوله: {وربي} مضافًا إلى الرسول، ليدل على شدّة القسم، إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة، وهو لفظ الله.وقرأ نافع، وابن عامر، ورويس، وسلام، والجحدري، وقعنب: {عالم} بالرفع على إضمار هو؛ وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون مبتدأ، والخبر {لا يعزب}.وقال الحوفي: أو خبره محذوف، أي عالم الغيب هو، وباقي السبعة: عالم بالجر.قال ابن عطية، وأبو البقاء: وذلك على البدل.وأجاز أبو البقاء أن تكون صفة، ويعني أن عالم الغيب يجوز أن يتعرف، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك يجوز أن يتعرف بالاضافة، إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة.ذكر ذلك سيبويه في كتابة، وقل من يعرفه.وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي: {علام } على المبالغة والخفض، وتقدّمت قراءة يعزب في يونس.وقرأ الجمهور: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} برفع الراءين، واحتمل أن يكون معطوفًا على {مثقال} وأن يكون مبتدأ، والخبر في قوله: {إلا في كتاب}.وعلى الاحتمال الأول، يكون {إلا في كتاب مبين} توكيدًا لما تضمن النفي في قوله: {لا يعزب} وتقديره: لكنه في كتاب مبين، وهو كناية عن ضبط الشىء والتحفظ به، فكأنه في كتاب، وليس ثم كتاب حقيقة.وعلى التخريج الأول، يكون الكتاب هو اللوح المحفوظ.وقرأ الأعمش، وقتادة: بفتح الراءين.قال ابن عطية: عطفًا على {ذرة}.ورويت عن أبي عمرو، وعزاها أيضًا إلى نافع، ولا يتعين ما قال، بل تكون لا لنفي الجنس، وهو مبتدأ، أعني مجموع لا وما بني معها على مذهب سيبويه، والخبر {إلا في كتاب مبين} وهو من عطف الجمل، لا من عطف المفردات، كما قال ابن عطية.وقال الزمخشري: جوابًا لسؤال من قال: هل جاز عطف {ولا أصغر} على {مثقال} وعطف {ولا أصغر} على {ذرة}؟ قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في عنه للغيب، وجعلت الغيب اسمًا للخفيات قبل أن تكتب في اللوح، لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه إلا مسطورًا في اللوح. انتهى.ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا الكتاب المبين ليس اللوح المحفوظ.وقرأ زيد بن على: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} ، بخفض الراءين بالكسرة، كأنه نوى مضافًا إليه محذوفًا، التقدير: ولا أصغره ولا أكبره، ومن ذلك ليس متعلقًا بأفعل، بل هو بتبيين، لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظًا فبينه بقوله: {من ذلك} أي عنى من ذلك، وقد جاءت من كون أفعل التفضيل مضافًا في قول الشاعر: وخرج على أنه أراد علم بنا، فأضاف ناويًا طرح المضاف إليه، فاحتملت قراءة زيد هذا التوجيه الآخر: أنه لما أضاف أصغر وأكبر على إعرابهما حالة الإضافة، وهذا كله توجيه شذوذ، وناسب وصفه تعالى بعالم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، فاندرج في ذلك وقت قيام الساعة، وصار ذلك دليلًا على صحة ما أقسم عليه، لأن من كان عالمًا بجميع الأشياء كلها وجزئها، وكانت قدرته ثابتة، كان قادرًا على إعادة ما فنى من جميع الأرواح والأشباح.قيل: وقوله: {مثقال ذرة في السموات} إشارة إلى علمه بالأرواح، {ولا في الأرض} إشارة إلى علمه بالأشياء.وكما أبرزهما من العدم إلى الوجود أولًا، فكذلك يعيدهما ثانيًا.وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون بمعنى اليمين مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها بالحجة القاطعة، وهو قوله: {ليجزي} فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء، وأن المحسن لابد له من ثواب، والمسيء لابد له من عقاب.انتهى، وفي السؤال بعض اختصار، وفيه دسيسة الاعتزال.والظاهر أن قوله: {ليجزي} متعلق بقوله: {لا يعزب} وقيل: بقوله: {لتأتينكم} وقيل: بالعامل {في كتاب مبين} أي إلا مستقرًا في كتاب مبين ليجزي.وقرأ الجمهور: {معجزين } مخففًا، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السماك: مثقلًا وتقدّم في الحج، أي معجزين قدرة الله في زعمهم.وقال ابن الزبير: معناه مثبطين عن الإيمان من أراده، مدخلين عليه العجز في نشاطه، وهذا هو سعيهم في الآيات، أي في شأن الآيات.وقال قتادة: مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا.وقال عكرمة: مراغمين.وقال ابن زيد: مجاهدين في إبطالها.وقرأ ابن كثير وحفص وابن أبي عبلة: {أليم} هنا، وفي الجاثية بالرفع صفة للعذاب، وباقي السبعة بالجر صفة للرجز، والرجز: العذاب السيء.
|